الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الجزء السابع الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ- جَلَّ ذِكْرُهُ- {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَذِلُّوا لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَاخْضَعُوا لَهُ بِهَا، وَأَفْرِدُوهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ، وَالِانْزِجَارِ عَنْ نَهْيِهِ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ شَرِيكًا تُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمَكُمْ إِيَّاهُ. : "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " يَقُولُ: وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا يَعْنِي بِرًّا بِهِمَا وَلِذَلِكَ نُصِبَ الْإِحْسَانُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْهُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِلُزُومِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، عَلَى وَجْهِ الْإِغْرَاءِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَاسْتَوْصُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِمَّا قُلْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَبِذِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأَمَرَ أَيْضًا بِذِي الْقُرْبَى وَهُمْ ذَوُو قَرَابَةِ أَحَدِنَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ مِمَّنْ قَرُبَتْ مِنْهُ قَرَابَتُهُ بِرَحِمِهِ مَنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إِحْسَانًا بِصِلَةِ رَحِمِهِ. وَأُمًّا قَوْلُهُ: وَالْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ جَمْعُ يَتِيمٍ، وَهُوَ الطِّفْلُ الَّذِي قَدْ مَاتَ وَالِدُهُ وَهَلَكَ. : "وَالْمَسَاكِينِ " وَهُوَ جَمْعُ مِسْكِينٍ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ رَكِبَهُ ذُلُّ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، فَتَمَسْكَنَ لِذَلِكَ. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: اسْتَوْصُوا بِهَؤُلَاءِ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَعَطَّفُوا عَلَيْهِمْ، وَالْزَمُوا وَصِيَّتِي فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَالْجَارِ ذِي الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ مِنْكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: يَعْنِي: الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: يَعْنِي: ذَا الرَّحِمِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} قَالَ: جَارُكَ هُوَ ذُو قَرَابَتِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى" قَالَا: الْقَرَابَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} قَالَ: جَارُكَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: جَارُكَ ذُو الْقَرَابَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: إِذَا كَانَ لَهُ جَارٌّ لَهُ رَحِمٌ، فَلَهُ حَقَّانِ اثْنَانِ: حَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْجَارِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} قَالَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: ذُو قَرَابَتِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ جَارُ ذِي قَرَابَتِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي قَوْلِهِ: " {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} " قَالَ: الرَّجُلُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِجِوَارِ ذِي قَرَابَتِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلٌ مُخَالِفُ الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ: "ذُو الْقَرَابَة" فِي قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: الْجَارُ دُونَ غَيْرِهِ. فَجَعَلَهُ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ جَارَ ذِي الْقَرَابَةِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا قَالَ مَيْمُونُ بْنِ مِهْرَانَ لَقِيلَ: وَجَارِ ذِي الْقُرْبَى "، وَلَمْ يُقَلْ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ". فَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ إِذَا أُضِيفَ "الْجَار" إِلَى "ذِي الْقَرَابَةِ "الْوَصِيَّةُ بِبِرِّ جَارِ ذِي الْقَرَابَةِ، دُونَ الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى. وَأَمَّا" وَالْجَارِ "بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُون" ذِي الْقُرْبَى "إِلَّا مِنْ صِفَة" الْجَارِ ". وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى " بِبِرِّ الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى دُونَ جَارِ ذِي الْقَرَابَةِ. وَكَانَ بَيِّنًا خَطَأُ مَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى مِنْكُمْ بِالْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَوْفٍ الشَّامِيِّ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: الْمُسْلِمُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا مَعْنَى لَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ تَأْوِيلَ كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُهُ إِلَّا إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمُ الْقُرْآنُ، الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ دُونَ الْأَنْكَرِ الَّذِي لَا تَتَعَارَفُهُ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِخِلَافِ ذَلِكَ حُجَّةٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا قِيلَ: فُلَانٌ ذُو قَرَابَةٍ، إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ: إِنَّهُ قَرِيبُ الرَّحِمِ مِنْهُ دُونَ الْقُرْبِ بِالدِّينِ كَانَ صَرْفُهُ إِلَى الْقَرَابَةِ بِالرَّحِمِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْقُرْبِ بِالدِّينِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَالْجَارُ الْبَعِيدُ الَّذِي لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَالْجَارِ الْجُنُب" الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْجَارِ الْجُنُبِ " يَعْنِي: الْجَارُ مِنْ قَوْمٍ جُنُبٍ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ، وَهُوَ جَارٌ، فَلَهُ حَقُّ الْجِوَارِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: الْجَارُ الْغَرِيبُ يَكُونُ مِنَ الْقَوْمِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: جَارُكَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: جَارُكَ لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، الْبَعِيدُ فِي النَّسَبِ وَهُوَ جَارٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} قَالَ: الْمُجَانِبُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ وَلَا قَرَابَةٌ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} قَالَ: مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْجَارُ الْمُشْرِكُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَوْفٍ الشَّامِيِّ: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} قَالَ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْجُنُبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْغَرِيبُ الْبَعِيدُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا، يَهُودِيًّا كَانَ أَوْ نَصْرَانِيًّا لِمَا بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ: الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى هُوَ الْجَارُ ذُو الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ ذُو الْجَنَابَةِ: الْجَارُ الْبَعِيدُ لِيَكُونَ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْجِيرَانِ قَرِيبِهِمْ وَبِعِيدِهِمْ. وَبَعْدُ: فَإِنَّ الْجُنُبَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبَعِيدُ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسٍ: أَتَيْـتُ حُرَيْثًـا زَائِـرًا عَـنْ جَنَابَـةٍ *** فَكـانَ حُـرَيْثٌ فِـي عَطَـائِي جَـامِدَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَنْ جَنَابَةٍ: عَنْ بُعْدٍ وَغُرْبَةٍ. وَمِنْهُ قِيلَ: اجْتَنَبَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا بَعُدَ مِنْهُ وَتَجَنَّبَهُ، وَجَنَّبَهُ خَيْرَهُ: إِذَا مَنَعَهُ إِيَّاهُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْجُنُبِ: جُنُبٌ لِاعْتِزَالِهِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَغْتَسِلَ. فَمَعْنَى ذَلِكَ: وَالْجَارُ الْمُجَانِبُ لِلْقَرَابَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَفِيقُ الرَّجُلِ فِي سَفَرِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: الرَّفِيقُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: صَاحِبُكَ فِي السَّفَرِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: وَهُوَ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، مَنْزِلُهُ مَنْزِلُكُ، وَطَعَامُهُ طَعَامُكَ، وَمَسِيرُهُ مَسِيرُكُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قَالَا: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ: الرَّفِيقُ الصَّالِحُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ: رَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَأْتِيكَ وَيَدُهُ مَعَ يَدِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قِرَاءَةً عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمٌ: أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: فَذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، " {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: الرَّفِيقُ الصَّالِحُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قَالَ: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ امْرَأَةُ الرَّجُلِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُ إِلَى جَنْبِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ أَوِ الْقَاسِمِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا-: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قَالَا: هِيَ الْمَرْأَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: يَعْنِي: الَّذِي مَعَكَ فِي مُنْزِلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قَالَ: هِيَ الْمَرْأَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قَالَ: الْمَرْأَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ الثَّوْرِيُّ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: هِيَ الْمَرْأَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ بَيْذَقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الَّذِي يَلْزَمُكَ وَيَصْحَبُكَ رَجَاءَ نَفْعِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ: الْمُلَازِمُ، وَقَالَ أَيْضًا: رَفِيقُكَ الَّذِي يُرَافِقُكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: الَّذِي يَلْصَقُ بِكَ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِكَ، وَيَكُونُ مَعَكَ إِلَى جَنْبِكَ رَجَاءَ خَيْرِكَ وَنَفْعِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّمَعْنَى الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: الصَّاحِبُ إِلَى الْجَنْبِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانَ بِجَنْبِ فُلَانٍ وَإِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَنَبَ فُلَانٌ فُلَانًا فَهُوَ يَجْنُبُهُ جَنْبًا إِذَا كَانَ لِجَنْبِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ: جَنَبُ الْخَيْلِ إِذَا قَادَ بَعْضَهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا: الرَّفِيقُ فِي السِّفْرِ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْمُنْقَطِعُ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي يُلَازِمُهُ رَجَاءَ نَفْعِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّهُمْ بِجَنْبِ الَّذِي هُوَ مَعَهُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ. وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِهِمْ، لِوُجُوبِ حَقِّ الصَّاحِبِ عَلَى الْمَصْحُوبِ. وَقَدْ:- حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ فُلَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمَا عَلَى رَاحِلَتَيْنِ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَيْضِةٍ طَرْفَاءَ، فَقَطَعَ قَصِيلَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُعْوَجٌّ، وَالْآخَرُ مُعْتَدِلٌ، فَخَرَجَ بِهِمَا، فَأَعْطَى صَاحِبَهُ الْمُعْتَدِلَ، وَأَخَذَ لِنَفَسِهِ الْمُعْوَجَّ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّيِّ أَنْتَ أَحَقُّ بِالْمُعْتَدِلِ مِنِّي. فَقَالَ: كَلَّا يَا فُلَانُ، إِنَّ كُلَّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبًا مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَار». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِّيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ خَيْرَ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ. وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِه». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِذْ كَانَ الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ مُحْتَمَلًا مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ كُلُّ مَنْ جَنَبَ رَجُلًا بِصُحْبَةٍ فِي سَفَرٍ، أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ انْقِطَاعٍ إِلَيْهِ وَاتِّصَالٍ بِهِ وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- خَصَّ بَعْضَهُمْ مِمَّا احْتَمَلَهُ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: جَمِيعُهُمْ مَعْنِيُّونَ بِذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَوْصَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَابْنِ السَّبِيلِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ الَّذِي يَجْتَازُ مَارًّا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَابْنِ السَّبِيلِ}: هُوَ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْكَ وَهُوَ مُسَافِرٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَابْنِ السَّبِيلِ} قَالَ: هُوَ الْمَارُّ عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ غَنِيًّا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الضَّيْفُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَابْنِ السَّبِيلِ} قَالَ: الضَّيْفُ، لَهُ حَقٌّ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَابْنِ السَّبِيلِ}: وَهُوَ الضَّيْفُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {وَابْنِ السَّبِيلِ} قَالَ: الضَّيْفُ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ هُوَ صَاحِبُ الطَّرِيقِ. وَالسَّبِيلُ: هُوَ الطَّرِيقُ، وَابْنُهُ: صَاحِبُهُ الضَّارِبُ فِيهِ فَلَهُ الْحَقُّ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِ مُحْتَاجًا مُنْقَطَعًا بِهِ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَنْ يُعِينَهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى مَعُونَةٍ، وَيُضَيِّفَهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ضِيَافَةٍ، وَأَنْ يَحْمِلَهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى حُمْلَانٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَالَّذِينَ مَلَكْتُمُوهُمْ مِنْ أَرِقَّائِكُمْ فَأَضَافَ الْمِلْكَ إِلَى الْيَمِينِ، كَمَا يُقَالُ: تَكَلَّمَ فُوكَ، وَمَشَتْ رِجْلُكَ، وَبَطَشَتْ يَدُكَ بِمَعْنَى: تَكَلَّمْتَ، وَمَشَيْتَ، وَبَطَشْتَ. غَيْرَ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ مَا وُصِفَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ فِي الْمُتَعَارَفِ فِي النَّاسِ دُونَ سَائِرِ جَوَارِحِ الْجَسَدِ. فَكَانَ مَعْلُومًا بِوَصْفِ ذَلِكَ الْعُضْوِ بِمَا وُصِفَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ لِأَنَّ مَمَالِيكَ أَحَدِنَا تَحْتَ يَدَيْهِ إِنَّمَا يَطْعَمُ مَا تُنَاوِلُهُ أَيْمَانُنَا، وَيَكْتَسِي مَا تَكْسُوهُ، وَتُصَرِّفُهُ فِيمَا أَحَبَّ صَرْفَهُ فِيهِ بِهَا. فَأُضِيفُ مِلْكُهُمْ إِلَى الْأَيْمَانِ لِذَلِكَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ. كُلُّ هَذَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا يَعْنِي مُجَاهِدٌ بِقَوْلِهِ: كُلُّ هَذَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ: الْوَالِدَيْنِ، وَذَا الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينَ، وَالْجَارَ ذَا الْقُرْبَى، وَالْجَارَ الْجُنُبَ، وَالصَّاحِبَ بِالْجَنْبِ، وَابْنَ السَّبِيلِ. فَأَوْصَى رَبُّنَا- جَلَّ جَلَالُهُ- بِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ عِبَادَهُ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ خَلْقَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى وَصِيَّتِهِ فِيهِمْ. فَحَقٌّ عَلَى عِبَادِهِ حِفْظُ وَصِيَّةِ اللَّهِ فِيهِمْ، ثُمَّ حِفْظُ وَصِيَّةِ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ-.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ ذَا خُيَلَاءَ. وَالْمُخْتَالُ: الْمُفْتَعَلُ مِنْ قَوْلِكَ: خَالَ الرَّجُلُ فَهُوَ يَخُولُ خَوْلًا وَخَالًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنْ كُنْتَ سَـيِّدَنَا سُـدْتَنَا *** وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَـاذْهَبْ فَخُـلْ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: وَالْخَالُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْجُهَّالْ *** وَأَمَّا الْفَخُورُ: فَهُوَ الْمُفْتَخِرُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ آلَائِهِ، وَبَسَطَ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَتَاهُ مِنْ طَوْلِهِ، وَلَكِنَّهُ بِهِ مُخْتَالٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَعَلَى غَيْرِهِ بِهِ مُسْتَطِيلٌ مُفْتَخِرٌ. كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا} قَالَ: مُتَكَبِّرًا، فَخُورًا قَالَ: يَعُدُّ مَا أُعْطِيَ وَهُوَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقَدٍ أَبِي رَجَاءٍ الْهَرَوِيِّ قَالَ: لَا تَجِدُ سَيِّئَ الْمَلِكَةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَتَلَا: " وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ". وَلَا عَاقًّا إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، وَتَلَا {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 32]
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ الْفَخُورَ الَّذِي يَبْخَلُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. فَـ "الَّذِين" يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، رَدًّا عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: فَخُورًا مِنْ ذِكْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى النَّعْتِ لِـ " مَنْ ". وَالْبُخْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَنْعُ الرَّجُلِ سَائِلَهُ مَا لَدَيْهِ وَعِنْدَهُ مَا فَضَلَ عَنْهُ كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} قَالَ: الْبُخْلُ أَنْ يَبْخَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا فِي يَدَيْهِ، وَالشُّحُّ: أَنْ يَشُحَّ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ. قَالَ: يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ بِالْحِلِّ وَالْحَرَامِ، لَا يَقْنَعُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: بِالْبَخَلِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْخَاءِ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ بِضَمِّ الْبَاءِ: بِالْبُخْلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَقِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيِ الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ فِي قِرَاءَتِهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَنَى بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ: الَّذِينَ كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصِفَتَهُ مِنْ الْيَهُودِ وَلَمْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: هُمْ الْيَهُودُ، بَخِلُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَكَتَمُوا ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} " إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا "، مَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي يَهُودَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}: وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَخِلُوا بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَكَتَمُوا الْإِسْلَامَ وَمُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا " {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}: فَهُمْ الْيَهُودُ " {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}: اسْمَ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}: يَبْخَلُونَ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِكِتْمَانِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عَارِمٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} قَالَ: هَذَا لِلْعِلْمِ لَيْسَ لِلدُّنْيَا مِنْهُ شَيْءٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} قَالَ: هَؤُلَاءِ يَهُودُ. وَقَرَأَ: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْكُتُبِ إِذَا سُئِلُوا عَنِ الشَّيْءِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَتَمُوهُ. وَقَرَأَ: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 53] مِنْ بُخْلِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ كَرْدَمُ بْنُ زَيْدٍ، حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأُسَامَةَ بْنِ حَبِيبٍ، وَنَافِعِ بْنِ أَبِي نَافِعٍ، وَبَحْرِيِّ بْنِ عَمْرٍو، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ يَأْتُونَ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا يُخَالِطُونَهُمْ، يَنْتَصِحُونَ لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ؛ فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا، وَلَا تُسَارِعُوا فِي النَّفَقَةِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} " أَيْ: مِنَ النُّبُوَّةِ، الَّتِي فِيهَا تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا " إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ ذَوِي الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِتَبْيِينِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ مِنِ اسْمِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَهُمْ بِهِ عَالِمُونَ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِثْلَ عِلْمِهِمْ بِكِتْمَانِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِتَبْيِينِهِ لَهُ، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَمَعْرِفَتِهِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ كِتْمَانَهُ إِيَّاهُ. وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ زَيْدٍ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ عَلَى النَّاسِ بِفَضْلِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ سَائِرُ تَأْوِيلِهِمَا وَتَأْوِيلِ غَيْرِهِمَا سَوَاءٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْبُخْلِ بِتَعْرِيفِ مَنْ جَهِلَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لِلَّهِ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- قَدْ بَيَّنَهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ كُتُبِهِ. فَبَخِلَ بِتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ هَؤُلَاءِ، وَأَمَرُوا مَنْ كَانَتْ حَالُهُ حَالَهُمْ فِي مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَنْ يَكْتُمُوهُ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ، وَلَا يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ دِيَانَةً وَلَا تَخَلُّقًا، بَلْ تَرَى ذَلِكَ قَبِيحًا وَتَذُمُّ فَاعِلَهُ، وَتَمْتَدِحُ- وَإِنْ هِيَ تَخَلَّقَتْ بِالْبُخْلِ وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي أَنْفُسِهَا- بِالسَّخَاءِ وَالْجُودِ، وَتَعُدُّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَفْعَالِ وَتَحُثُّ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ بُخْلَهُمُ الَّذِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِنَّمَا كَانَ بُخْلًا بِالْعِلْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ آتَاهُمُوهُ فَبَخِلُوا بِتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ وَكَتَمُوهُ دُونَ الْبُخْلِ بِالْأَمْوَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ وُسُبُلِهِ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِتَرْكِ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ بُخْلُهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَمْرُهُمُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بِهَذَا الْمَعْنَى- عَلَى ذِكْرِنَا مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- فَيَكُونُ لِذَلِكَ وَجْهٌ مَفْهُومٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْبُخْلِ وَأَمْرِهِمْ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ – وَأَعْتَدْنَاَ: وَجَعَلْنَا لِلْجَاحِدِينَ نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُكَذِّبِينَ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ، الْكَاتِمِينَ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ مَنْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِبَيَانِهِ لَهُ مِنَ النَّاسِ عَذَابًا مُهِينًا " يَعْنِي: الْعِقَابَ الْمُذِلَّ مَنْ عُذِّبَ بِخُلُودِهِ فِيهِ عَتَادًا لَهُ فِي آخِرَتِهِ، إِذَا قَدِمَ عَلَى رَبِّهِ وَجَدَهُ بِمَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ جُحُودِهِ فَرْضَ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَهُ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ صِفَتَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا "وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ." وَالَّذِينَ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الْكَافِرِينَ. وَقَوْلُهُ: رِئَاءَ النَّاسِ يَعْنِي: يُنْفِقُهُ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ غَيْرِ سَبِيلِهِ، وَلَكِنْ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ. " وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ "، يَقُولُ: وَلَا يُصَدِّقُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَلَا بِالْمَعَادِ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- الَّذِي فِيهِ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ- أَنَّهُ كَائِنٌ. وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ إِنَّ هَذَا مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ. وَهُوَ بِصِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ الَّذِينَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ مُقِيمُونَ أَشْبَهَ مِنْهُ بِصِفَةِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تُوَحِّدُ اللَّهَ وَتُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالْمَعَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ كُفْرُهَا تَكْذِيبَهَا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَبَعْدُ، فَفِي فَصْلِ اللَّهِ بَيْنَ صِفَةِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَصِفَةِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا بِـ "الْوَاو" الْفَاصِلَةِ بَيْنَهُمْ مَا يُنَبِّئُ عَنْ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ مِنْ نَوْعَيْنِ مِنَ النَّاسِ مُخْتَلِفِي الْمَعَانِي، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُمْ أَهْلَ كُفْرٍ بِاللَّهِ. وَلَوْ كَانَتِ الصِّفَتَانِ كِلْتَاهُمَا صِفَةَ نَوْعٍ مِنَ النَّاسِ لَقِيلَ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ-: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ "، وَلَكِنْ فُصِلَ بَيْنَهُمْ بِـ" الْوَاوِ " لِمَا وَصَفْنَا. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ دُخُولَ "الْوَاو" غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي عَطْفِ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّ ذَلِكَ- وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ- فَإِنَّ الْأَفْصَحَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ تَرْكُ إِدْخَالِ "الْوَاوِ ". وَإِذَا أُرِيدَ بِالثَّانِي وَصْفٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ،- إِدْخَال" الْوَاوِ "- وَتَوْجِيهُ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَفْصَحِ الْأَشْهَرِ مِنْ كَلَامِ مَنْ نَزَلَ بِلِسَانِهِ كِتَابُهُ أَوْلَى بِنَا مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْأَنْكَرِ مِنْ كَلَامِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ خَلِيلًا وَصَاحِبًا يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ، وَيَتَّبِعُ أَمْرَهُ، وَيَتْرُكُ أَمْرَ اللَّهِ فِي إِنْفَاقِهِ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ، وَجُحُودِهِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ " فَسَاءَ قَرِينًا "، يَقُولُ: فَسَاءَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا. وَإِنَّمَا نُصِبَ "الْقَرِينُ "؛ لِأَنَّ فِي" سَاءَ "ذِكْرًا مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 50]، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ فِي" سَاءَ " وَنَظَائِرِهَا وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِينَهُ *** فَإِنَّ الْقَرِينَ بِالْمُقَارَنِ مُقْتَدِ يُرِيدُ بِـ " الْقَرِينِ ": الصَّاحِبَ وَالصَّدِيقَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِوَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَأَيُّ شَيْءٍ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ لَوْ صَدَّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَخْلَصُوا لَهُ التَّوْحِيدَ، وَأَيْقَنُوا بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَصَدَّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّه" يَقُولُ: وَأَدَّوْا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُمُوهَا طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ، وَلَمْ يُنْفِقُوهَا رِئَاءَ النَّاسِ الْتِمَاسَ الذِّكْرِ وَالْفَخْرِ عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْمَحْمَدَةِ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ النَّاسِ. "وَكَانَ اللَّه" بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ نِفَاقًا، وَهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مُكَذِّبُونَ. "عَلِيمًا" يَقُولُ: ذَا عِلْمٍ بِهِمْ وَبِأَعْمَالِهِمْ، وَمَا يَقْصِدُونَ وَيُرِيدُونَ بِإِنْفَاقِهِمْ مَا يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَالْمَحْمَدَةَ فِي النَّاسِ، وَهُوَ حَافِظٌ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهَا جَزَاءَهُمْ عِنْدَ مَعَادِهِمْ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ "فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَبْخَسُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِهِ مِمَّا رَزَقَهُ مِنْ ثَوَابِ نَفَقَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا مِنْ أَجْرِهَا يَوْمَ الْقِيَامَة" مِثْقَالَ ذَرَّةٍ " أَيْ: مَا يَزِنُهَا وَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ ثِقَلِهَا فِي الْوَزْنِ، وَلَكِنَّهُ يُجَازِيهِ بِهِ وَيُثِيبُهُ عَلَيْهِ كَمَا:- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ تَلَا " {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} قَالَ: لَأَنْ تَفْضُلُ حَسَنَاتِي فِي سَيِّئَاتِي بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: لَأَنْ تَفْضُلُ حَسَنَاتِي عَلَى سَيِّئَاتِي مَا يَزِنُ ذَرَّةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِي الدُّنْيَا جَمِيعًا. وَأَمَّا "الذَّرَّة" فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا كَمَا:- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} قَالَ: رَأَسُ نَمْلَةٍ حَمْرَاءَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ لِي إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: زَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الذَّرَّةَ الْحَمْرَاءَ لَيْسَ لَهَا وَزْنٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ صَحَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً. يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَة». حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَحَدُكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ يَرَاهُ مُصِيبًا لَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْوَانِهِمْ إِذَا رَأَوْا أَنْ قَدْ خَلَصُوا مِنَ النَّارِ. يَقُولُونَ: أَيْ رَبِّنَا إِخْوَانَنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا، وَيُجَاهِدُونَ مَعَنَا قَدْ أَخَذَتْهُمُ النَّارُ!. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: اذْهَبُوا، فَمَنْ عَرَفْتُمْ صُورَتَهُ فَأَخْرِجُوهُ. وَيُحَرِّمُ صُورَتَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَجِدُونَ الرَّجُلَ قَدْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَإِلَى حَقْوَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مِنْهَا بَشَرًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ قِيرَاطِ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ! فَيُخْرِجُونَ مِنْهَا بَشَرًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ، فَلَا يَزَالُ يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُوا فَاقْرَأُوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} " فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي وَشُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، عَنْ زَاذَانَ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: أَلَا مَنْ كَانَ يَطْلُبُ مَظْلَمَةً فَلْيَجِئْ إِلَى حَقِّهِ فَلْيَأْخُذْهُ. قَالَ: فَيَفْرَحُ – وَاللَّهِ- الْمَرْءُ أَنْ يَذُوبَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ زَوْجَتِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا. وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 101] فَيُقَالُ لَهُ: ائْتِ هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ، أَيْ: أَعْطِهِمْ حُقُوقَهُمْ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ مِنْ أَيْنَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أَيْ مَلَائِكَتِي انْظُرُوا فِي أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَأَعْطُوهُمْ مِنْهَا. فَإِنْ بَقِيَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَةٍ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهَا- يَا رَبَّنَا: أَعْطَيْنَا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَبَقِيَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَةٍ. فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: ضَعِّفُوهَا لِعَبْدِي، وَأَدْخِلُوهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِي الْجَنَّةَ. وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}: أَيْ: الْجَنَّةُ يُعْطِيهَا. وَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَتْ سَيِّئَاتُهُ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ- إِلَهَنَا: فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَ سَيِّئَاتُهُ، وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ضَعِّفُوا عَلَيْهَا مِنْ أَوْزَارِهِمْ، وَاكْتُبُوا لَهُ كِتَابًا إِلَى النَّارِ. قَالَ صَدَقَةُ: أَوْ صَكًّا إِلَى جَهَنَّمَ، شَكَّ صَدَقَةُ أَيَّتَهُمَا قَالَ. وَحُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: سَمِعْتُ زَاذَانَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ. فَتَفْرَحُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَذُوبَ لَهَا الْحَقُّ عَلَى أَبِيهَا، أَوْ عَلَى ابْنِهَا، أَوْ عَلَى أَخِيهَا، أَوْ عَلَى زَوْجِهَا، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 101]، فَيَغْفِرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ حَقِّهِ مَا شَاءَ، وَلَا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شَيْئًا. فَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ فَيَقُولُ: ائْتُوا إِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، فَيَقُولُ: رَبِّ فَنِيَتِ الدُّنْيَا، مِنْ أَيْنَ أُوتِيهُمْ حُقُوقَهُمْ؟ فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ. فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَ الْمَلِكَ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ. فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى تَأْوِيلِ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ عَبْدًا وَجَبَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ قِبَلَ عَبْدٍ لَهُ آخَرَ فِي مَعَادِهِ وَيَوْمَ لِقَائِهِ فَمَا فَوْقَهُ، فَيَتْرُكُهُ عَلَيْهِ فَلَا يَأْخُذُهُ لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ لِكُلِّ مَظْلُومٍ تَبِعَتَهُ قِبَلَهُ "وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ". يَقُولُ: وَإِنْ تُوجَدْ لَهُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا بِمَعْنَى: يُضَاعِفُ لَهُ ثَوَابَهَا وَأَجْرَهَا." وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا " يَقُولُ: وَيُعْطِهِ مِنْ عِنْدِهِ أَجْرًا عَظِيمًا. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ، عَلَى مَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَلِكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، أَعْنِي التَّأْوِيلَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ لِمُوَافَقَتِهِ الْأَثَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ دَلَالَةِ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ، إِذْ كَانَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الَّتِي حَثَّ اللَّهُ فِيهَا عَلَى النَّفَقَةِ فِي طَاعَتِهِ، وَذَمَّالنَّفَقَةَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ وَصَلَ ذَلِكَ بِمَا وَعَدَ الْمُنَافِقِينَ فِي طَاعَتِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ". وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً ". فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْعِرَاقِ: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} بِنَصْبِ الْحَسَنَةِ بِمَعْنَى: وَإِنْ تَكُ زِنَةُ الذَّرَّةِ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ} بِرَفْعِ الْحَسَنَةِ بِمَعْنَى: وَإِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ، عَلَى مَا ذَكَرْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُضَاعِفْهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بِـ " الْأَلِفِ "، وَلَمْ يَقُلْ: يُضَعِّفْهَا؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: يُضَاعِفُهَا أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ فِي قَوْلِهِ يُضَعِّفُ ذَلِكَ ضِعْفَيْنِ لَقِيلَ: يُضَعِّفُهَا بِالتَّشْدِيدِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا وَعَدَهُمْ فِيهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاعْتَلَّوْا فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّ الْحَسَنَةَ لَتُضَاعَفُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: وَمَا أَعْجَبَكَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُهُ- يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِنَّ «اللَّهَ لَيُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَة» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ: الْمُهَاجِرُونَ خَاصَّةً دُونَ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ. وَاعْتَلَّوْا فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَبُو نُشَيْطٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَعْرَابِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 60] قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: فَمَا لِلْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ: مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَإِذَا قَالَ اللَّهُ لِشَيْءٍ: عَظِيمٌ، فَهُوَ عَظِيمٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُهَاجِرُونَ دُونَ الْأَعْرَابِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي أَخْبَارِ اللَّهِ أَوْ أَخْبَارِ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْءٌ يَدْفَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا. فَإِذْ كَانَ صَحِيحًا وَعْدُ اللَّهِ مَنْ جَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحَسَنَةِ مِنَ الْجَزَاءِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ مِنْهُمْ أَنْ يُضَاعِفَهَا لَهُ، وَكَانَ الْخَبَرَانِ اللَّذَانِ ذَكَّرْنَاهُمَا عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَحِيحَيْنِ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُجْمَلًا وَالْآخَرُ مُفَسَّرًا، إِذْ كَانَتْ أَخْبَارُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، صَحَّ أَنَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعْنَاهُ أَنَّالْحَسَنَةَ لَتُضَاعَفُ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَلِلْأَعْرَابِ مِنْهُمْ عَشْرَ أَمْثَالِهَا عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّ قَوْلَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} يَعْنِي: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ مِنْ أَعْرَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ مِنْ مُهَاجِرِيهِمْ يُضَاعَفْ لَهُ، وَيُؤْتِهِ اللَّهُ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا يَعْنِي يُعْطِهِ مِنْ عِنْدِهِ أَجْرًا عَظِيمًا، يَعْنِي: عِوَضًا مِنْ حَسَنَتِهِ عَظِيمًا، وَذَلِكَ الْعِوَضُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}: أَيِ: الْجَنَّةُ يُعْطِيهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبَّادُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} قَالَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} قَالَ أَجْرًا عَظِيمًا: الْجَنَّةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ عِبَادَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يَعْنِي: بِمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِأَعْمَالِهَا، وَتَصْدِيقِهَا رُسُلَهَا أَوْ تَكْذِيبِهَا، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا، يَقُولُ: وَجِئْنَا بِكَ، يَا مُحَمَّدُ "عَلَى هَؤُلَاءِ "، أَيْ: عَلَى أُمَّتِك" شَهِيدًا ". يَقُولُ شَاهِدًا كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: إِنَّ النَّبِيِّينَ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْعَشَرَةُ، وَأَقَلُّ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يُؤْتَى بِقَوْمِ لُوطٍ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُؤْمِنْ مَعَهُ إِلَّا ابْنَتَاهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغْتُمْ مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُقَالُ: مَنْ يَشْهَدُ فَيَقُولُونَ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُقَالُ لَهُمْ: اشْهَدُوا، إِنَّ الرُّسُلَ أَوْدَعُوا عِنْدَكُمْ شَهَادَةً، فَبِمَ تَشْهَدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبُّنَا نَشْهَدُ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا كَمَا شَهِدُوا فِي الدُّنْيَا بِالتَّبْلِيغِ. فَيُقَالُ: مَنْ يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيَشْهَدُ أَنَّ أُمَّتَهُ قَدْ صَدَقُوا، وَأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 143]. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} قَالَ: رَسُولُهَا، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا أَنْ قَدْ أَبْلَغَهُمْ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ. " وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا "، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى عَلَيْهَا فَاضَتْ عَيْنَاهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [سُورَةُ الْبُرُوجِ: 3] قَالَ: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} ". حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: اقْرَأْ عَلَيَّ. قَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. قَالَ: فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "النِّسَاء" حَتَّى بَلَغَ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ". قَالَ: اسْتَعْبَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَفَّ ابْنُ مَسْعُودٍ.» قَالَ الْمَسْعُودِيُّ، فَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَإِذَا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد» ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: يَوْمَ نَجِيءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَنَجِيءُ بِكَ عَلَى أُمَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ شَهِيدًا "يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَقُولُ: يَتَمَنَّىالَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَعَصَوْا رَسُولَهُ" لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ". وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} "بِتَشْدِيد" " السِّينِ "وَ" الْوَاو" وَفَتْحِ "التَّاء" بِمَعْنَى: لَوْ تَتَسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ "التَّاء" الثَّانِيَةُ فِي "السِّين" يُرَادُ بِهِ: أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ صَارُوا تُرَابًا فَكَانُوا سَوَاءً هُمْ وَالْأَرْضُ. وَقَرَأَ آخَرُونَ ذَلِكَ: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ}، بِفَتْحِ "التَّاء" وَتَخْفِيفِ "السِّينِ ". وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا تَشْدِيد" السِّينِ "، وَاعْتَلَّوْا بِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ تَجْمَعُ بَيْنَ تَشْدِيدَيْنِ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ}، بِمَعْنَى: لَوْ سَوَّاهُمُ اللَّهُ وَالْأَرْضَ، فَصَارُوا تُرَابًا مِثْلَهَا بِتَصْيِيرِهِ إِيَّاهُمْ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعْنَى، وَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ؛ لِأَنَّ مَنْ تَمَنَّى مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ تُرَابًا، إِنَّمَا يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ تُرَابًا. عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَأَعْجَبُ الْقِرَاءَةِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ}، بِفَتْحِ "التَّاء" وَتَخْفِيفِ "السِّين" كَرَاهِيَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ تَشْدِيدَيْنِ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَلِلتَّوْفِيقِ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [سُورَةُ النَّبَأِ: 40]. فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ كَانُوا تُرَابًا، وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ". فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ "فَيُسَوَّوْا هُمْ. وَهِيَ أَعْجَبُ إِلَيَّ؛ لِيُوَافِقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا" فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ تَأَوَّلُوهُ بِمَعْنَى: وَلَا تَكْتُمُ اللَّهَ جَوَارِحُهُمْ حَدِيثًا، وَإِنْ جَحَدَتْ ذَلِكَ أَفْوَاهُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ. الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 23]، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ". فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ، فَقَالُوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَشْيَاءُ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ؟ أَشَكٌّ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَيْسَ بِالشَّكِّ، وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ. قَالَ: فَهَاتِ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْكَ. قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 23]، وَقَالَ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}: وَقَدْ كَتَمُوا! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَيَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَلَا يَغْفِرُ شِرْكًا، وَلَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: رَجَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}: وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَحْسَبُكَ قُمْتَ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِكَ فَقُلْتَ: أَلْقَى عَلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ مُتَشَابَهَ الْقُرْآنِ. فَإِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ جَامِعُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا إِلَّا مِمَّنْ وَحَّدَهُ، فَيَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَقُلْ، فَيَسْأَلُهُمْ فَيَقُولُونَ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قَالَ: فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَيَسْتَنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَنَّوْا لَوْ أَنَّ الْأَرْضَ سُوِّيَتْ بِهِمْ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}: يَعْنِي: أَنْ تُسَوَّى الْأَرْضُ بِالْجِبَالِ، وَالْأَرْضُ عَلَيْهِمْ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَّرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلَمْ يَكْتُمُوا اللَّهَ حَدِيثًا، كَأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ سُوُّوا مَعَ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَتَمُوا اللَّهَ حَدِيثًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: يَوْمَئِذٍ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا وَيَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ. وَلَيْسَ بِمُنْكَتِمٍ عَنِ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِمْ؛ لِعِلْمِهِ- جَلَّ ذِكْرُهُ- بِجَمِيعِ حَدِيثِهِمْ وَأَمْرِهِمْ، فَإِنْ هُمْ كَتَمُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَجَحَدُوهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ.
|